حسن مدن.. رئة الخليج
من يتابع كتابات حسن مدن في عموده اليومي "شيء ما" بصحيفة الخليج، سيجده بأنه أفضل من يكتب العمود الصحفي حتى الآن، يقرأ عموده في الصفحة الأخيرة قبل الأولى مهما كان الحدث وقيام ساعته وسخونته وأهتزازه الأرضي، أنت تقرأ هنا معرفة، وقد أخطأ من نظر إلى هذه الكتابة بأنها صحفية في اصطلاحها الكلاسيكي، أنها معرفة ونهر من الكلمات.
في كتاباته تدخل السياسية في الثقافة، والثقافة في السياسة، يحقن المفردة بدم الشعر، يشحنها بقراءاته المتعددة في التاريخ والرواية والمسرح والموسيقا، تداخل فيها المفردات والعناصر بسباكة معمقة، إنه صائغ الكلمات، يصهرها بماء معرفته وخلفيته الثقافية، يكتب عن السياسة لأنها لعبته الأثيرة وتجرع مراراتها وتعبت قدماه من مطارات العالم، لكنه يطوعها وفق ما يملأ موقفه، هذا الموقف الذي نجده بين كلماته، أينما ذهبت، وصحيح إنه إبن هذه السياسة لكنه لم يقع في غرامها، ولم تدخله في أروقتها ودهاليزها المظلمة، بل ظل وفياً ومخلصاً لمرحلته وراهنه وأسئلته الجوهرية والعميقة، وصحيح بأنه السياسي الأول وسط جيله لكنه يتنفس الشعر، ودم كتاباته تنبع من نهر الشعر.
يكتب عن الأمس والناس وأحلامهم، عن القيم والأخلاق، عن الأمكنة والأزمنة السحيقة، يكتب عن المسرح فتجد نفسك حاضرا فيه ووسط شخوصه ومكانه وزمانه، في مسرحه الكبير، يكتب عن الموسيقا فتسمعها وتدخل في أعماقك، وكأنه هنا يعزف الكلمات، اتذكر بأني قرأت له مقالاً عن جوزيف صقر، عشت معه الأيام البيروتية، استمعت إلى جوزيف صقر وهو يغني ويعزف، كيف للكلمة هنا أن تصنع خيالاً، تمشي بين زواياها وتشم رائحة أمكنتها وتشعر بشخوصها، إنها كلمات مدن البسيطة العميقة والمؤثرة، وتغنيك احياناً عن حضور أمسية موسيقية أو مسرحية أو تقرأ كتاباً، إنه متشرب الثقافات خاصة الأدب الروسي الذي تعمق في حضوره.
يكتب عن كل هذا ويتجذر في بطون المعرفة، يكتب عن التاريخ ليحوله إلى حديقة غناء، افكار كتاباته دائماً متجددة ومفردته حيّة وعميقة، عندما يكتب كأنه يلعب مع النرد، إنه مدن في خطابه ووعيه وتجربته الثرية، إنه إبن البحرين وجلدة نضاله ومقاومته، تشرب من دم الأسلاف ليكون سؤالاً، أقرأ له الآن في الفضاء الأزرق لأجد في كل مرة معرفة حتى بمنديل أم كلثوم، مرة حدثتني الصديقة الفنانة أمينة القفاص عنه وعن قاسم حداد وخالد الشيخ في حديث شيق عن "وجوه" قاسم وخالد وحضر حسن مدن بقوة لأن على طاولة القهوة كانت كلمات عموده تفيض عن المكان، إنه رئة الخليج، تحدثني بحب عن قلوبهم النبيلة، عن أرواحهم وحياتهم، كانوا حاضرين، معنا في سنوات مضت، لاتكف القفاص الحديث عنهم لدرجة قلت لها مازخاً حدثيني عن نفسي، فرذت "غرت" منهم، تحبهم وكأنهم أسرتها أو أخوتها من رحم وحليب، ومن لا يحب هؤلاء، أبناء الماء، الذين صنعوا لنا الفرح في الكلمة والموسيقا، وفي"عرس الدم".
الرئيسية 
